فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرةُ من الأباطيل التي لا تكاد تصدُر عمن له أدنى إدراك، أي ألم تنظُر {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ} أي شكرَ نعمته تعالى بأن وضعوا موضعَه {كُفْرًا} عظيمًا وغمْطًا لها أو بدلوا نفسَ النعمة كفرًا، فإنهم لما كفروها سُلبوها فصاروا مستبدلين بها كفرًا كأهل مكةَ حيث خلقهم الله سبحانه وأسكنهم حرمَه الآمنَ الذي يجبى إليه ثمراتُ كل شيء وجعلهم قِوامَ بيته وشرّفهم بمحمد عليه الصلاة والسلام فكفروا ذلك، فقُحطوا سبع سنين وقُتلوا وأُسروا يوم بدر، فصاروا أذلأَ مسلوبي النعمة باقين بالكفر بدلها. عن عمر وعلي رضي الله عنهما «هم الأفجران من قريش: بنو المغيرةِ وبنو أمية أما بنو المغيرة فكُفيتموهم يوم بدر وأما بنو أمية فَمُتِّعوا إلى حين». كأنهما يتأولان ما سيتلى من قوله عز وجل: {قُلْ تَمَتَّعُواْ} الآية: {وَأَحَلُّواْ} أي أنزلوا {قَوْمَهُمْ} بإرشادهم إياهم إلى طريقة الشرك والضلالِ، وعدمُ التعرض لحلولهم لدلالة الإحلالِ عليه إذ هو فرْعُ الحلول كقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} {دَارَ البوار} دارَ الهلاك الذي لا هلاكَ وراءه.
{جَهَنَّمَ} عطفُ بيان لها، وفي الإبهام ثم البيان ما لا يخفى من التهويل {يَصْلَوْنَهَا} حال منها أو من قومهم أي داخلين فيها مُقاسِين لحرّها، أو استئنافٌ لبيان كيفيةِ الحلولِ أو مفسر لفعل يقدر ناصبًا لجهنم، فالمرادُ بالإحلال المذكورِ حينئذ تعريضُهم للهلاك بالقتل والأسرِ لكن قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} أنسبُ بالتفسير الأول {وَبِئْسَ القرار} على حذف المخصوصِ بالذم أي بئس المقرُّ جهنمُّ أو بئس القرار قرارُهم فيها، وفيه بيان أن حلولهم وصِلِيَّهم على وجه الدوام والاستمرار.
{وَجَعَلُواْ} عطفٌ على أحلوا وما عطف عليه داخلٌ معهما في حيز الصلة وحكمِ التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمِهم {لِلَّهِ} الفردِ الصمدِ الذي ليس كمثله شيءٌ وهو الواحد القهار {أَندَادًا} أشباهًا في التسمية أو في العبادة {لِيُضِلُّواْ} قومَهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا {عَن سَبِيلِهِ} القويمِ الذي هو التوحيدُ ويوقعوهم في ورطة الكفرِ والضلال، ولعل تغييرَ الترتيب مع أن مقتضى ظاهرِ النظمِ أن يُذكر كفرانُهم نعمةَ الله تعالى، ثم كفرُهم بذاته تعالى باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدي إلى إحلالهم دار البوار، لتثنية التعجيبِ وتكريرِه والإيذانِ بأن كل واحد من وضع الكفر موضعَ الشكر وإحلالِ القوم دارَ البوار، واتخاذِ الأنداد للإضلال أمرٌ يقضي منه العجبَ، ولو سيق النظمُ على نسق الوجود لربما فُهم التعجيب من مجموع الهَنات الثلاثِ كما في قصة البقرة، وقرئ ليَضلوا بالفتح، وأيًا ما كان فليس ذلك غرضًا حقيقيًا لهم من اتخاذ الأندادِ لكن لما كان ذلك نتيجةً له شُبّه بالغرض وأدخل عليه اللام بطريق الاستعارة التبعية.
{قُلْ} تهديدًا لأولئك الضالين المُضلين ونعيًا عليهم وإيذانًا بأنهم لشدة إبائِهم قبولَ الحق وفرْطِ إنهماكِهم في الباطل وعدمِ ارعوائهم عن ذلك بحال أحقاءُ بأن يُضرب عنهم صفحًا ويُعطَفَ عنهم عِنانُ العِظة ويُخَلّوا وشأنَهم ولا يُنهَوْا عنه بل يؤمَروا بمباشرته مبالغةً في التخلية والخِذلان ومسارعةً إلى بيان عاقبته الوخيمة ويقال لهم: {تَمَتَّعُواْ} بما أنتم عليه من الشهوات التي جملتها كفرانُ النعم العظامِ واستتباعُ الناسِ في عبادة الأصنام {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} ليس إلا، فلابد لكم من تعاطي ما يوجب ذلك ويقتضيه من أحوالكم بل هي في الحقيقة صورةٌ لدخولها ومثالٌ له حسبما يلوح به قولُه سبحانه: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} إلخ، فهو تعليلٌ للأمر المأمورِ، وفيه من التهديد الشديدِ والوعيدِ الأكيد ما لا يوصف، أو قل لهم تصويرًا لحالهم وتعبيرًا عما يُلجئهم إلى ذلك: تمتعوا، إيذانًا بأنهم لفرْط انغماسِهم في التمتع بما هم فيه من غير صارفٍ يَلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم مأمورون بذلك من قِبل آمر الشهوة مذعِنون لحكمه منقادون لأمره كدأب مأمورٍ ساعٍ في خدمة آمرٍ مُطاع، فليس قوله تعالى: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} حينئذٍ تعليلًا للأمر بل هو جوابُ شرطٍ ينسحب عليه الكلام، كأنه قيل: هذه حالُكم فإن دمتم عليه فإن مصيركم إلى النار وفيه التهديدُ والوعيد لا في الأمر. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَلَمْ تَرَ}.
تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرة من الأباطيل أي ألم تنظر {إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله} أي شكر نعمته تعالى الواجب عليهم ووضعوا موضعه {كُفْرًا} عظيمًا وغمطًا لها، فالكلام على تقدير مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه وهو المفعول الثاني و{كُفْرًا} المفعول الأول، وتوهم بعضهم عكس ذلك، وقد لا يحتاج إلى تقدير على معنى أنهم بدلوا النعمة نفسها كفرًا لأنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبيها موصوفين بالكفر، وقد ذكر هذا كالأول الزمخشري، والوجهان كما في الكشف خلافًا لما قرره الطيبي وتابعه عليه غيره متفقان في أن التبديل هاهنا تغيير في الذات إلا أنه واقع بين الشكر والكفر أو بين النعمة نفسها والكفر، والمراد بهم أهل مكة فإن الله سبحانه أسكنهم حرمه وجعلهم قوام بيته وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا نعمة الله تعالى بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم، أو أصابهم الله تعالى بالنعمة والسعة لإيلافهم الرحلتين فكفروا نعمته سبحانه فضربهم جل جلاله بالقحط سبه سنين وقتلوا وأسروا يوم بدر فحصل لهم الكفر بدل النعمة وبقي ذلك طوقافي أعناقهم.
وأخرج الحاكم وصححه وابن جرير والطبراني وغيرهم من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هؤلاء المبدلين: هما إلا فجران من قريش بنو أمية. وبنوا المغيرة فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر وغيرهما عن عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك.
وجاء في رواية كما في جامع الأصول هم والله كفار قريش.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم، ولعله رضي الله تعالى عنه لا يريد أنها نزلت في جبلة ومن معه لأن قصتهم كانت في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وإنما يريد أنها تخص من فعل جبلة إلى يوم القيامة {وَأَحَلُّواْ} أي أنزلوا {قعوْمَهُمْ} بدعوتهم إياهم لما هم فيه من الضلال، ولم يتعرض لحلولهم لدلالة الاحلال عليه إذ هو فرع الحلول كما قالوا في قوله تعالى في فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} [هود: 98] {دَارَ البوار} أي الهلاك من باريبور بوارًا وبورًا، قال الشاعر:
فلم أر مثلهم أبطال حرب ** غداة الحرب إذ خيف البوار

وأصله كما قال الراغب فرط الكساد، ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد عبر به عن الهلاك.
{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)}.
{جَهَنَّمَ} عطف بيان للدار، وفي الإبهام ثم البيان ما لا يخفى من التهويل، وأعربه الحوفي وأبو البقاء بدلًا منها، وقوله تعالى: {يَصْلَوْنَهَا} أي يقاسون حرها حال من الدار أو من {جَهَنَّمَ} أو من {قَوْمَهُمْ} [إبراهيم: 28] أو استئناف لبيان كيفية الحلول، وجوز أبو البقاء كون {جَهَنَّمَ} منصوبًا على الاشتغال أي يصلون جهنم يصلونها وإليه ذهب ابن عطية، فالمراد بالاحلال حينئذ تعريضهم للهلاك بالقتل والاسر، وأيد بما روي عطاء أن الآية نزلت في قتلى بدر، وبقراءة ابن أبي عبلة {جَهَنَّمَ} بالرفع على الابتداء، ويحتمل أن يكون {جَهَنَّمَ} على هذه القراءة خبر مبتدأ محذوف واختاره أبو حيان معللا بأن النصب على الاشتغال مرجوح من حيث أنه لم يتقدم ما يرجحه ولا ما يجعله مساويًا، وجمهور القراء على النصب ولم يكونوا ليقرؤوا بغير الراجح أو المساوي، إذ زيد ضربته بالرفع أرجح من زيدًا ضربته فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في تلك القراءة راجحًا، وأنت تعلم أن قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} [إبراهيم: 30] يرجح التفسير السابق {وَبِئْسَ القرار} على حذف المخصوص بالذم أي بئس القرار هي أن جهنم أو بئس القرار قرارهم فيها، وفيه بيان أن حلولهم وصليهم على وجه الدوام والاستمرار.
{وَجَعَلُواْ} عطف على {أحلوا} [إبراهيم: 28] أو ما عطف عليه داخل معه في حيز الصلة وحكم التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمهم {يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء وهو الواحد القهار {أَندَادًا} أمثالًا في التسمية أو في العبادة، وقال الراغب: ند الشيء مشاركة في جوهره وذلك ضرب من المماثلة فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت فكل ند مثل وليس كل مثل ندا، وليس كل مثل ندًا، ولعل المعول عليه هنا ما أشرنا إليه.
{لِيُضِلُّواْ} قومهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا {عَن سَبِيلِهِ} القويم الذي هو التوحيد، وقيل: مقتضى ظاهر النظم الكريم أن يذكر كفرانهم نعمة الله تعالى ثم كفرانهم بذاته سبحانه باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدى إلى إحلالهم دار البوار، ولعل تغيير الترتيب لتثنية التعجيب وتكريره والإيذان بأن كل واحد من هذه الهنات يقضي منه العجب ولو سيق النظم على نسق الوجود لربما فهم التعجيب من الجموع، وله نظائر في الكتاب الجليل، وقرأ ابن كثير.
وأبو عمرو.
ورويس عن يعقوب {لِيُضِلُّواْ} بفتح الياء، والظاهر أن اللام في القراءتين مثلها في قوله تعالى: {فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وذلك أنه لما كان الاضلال أو الضلال نتيجة للجعل المذكور شبه بالغرض والعلة الباعثة فاستعمل له حرفه على سبيل الاستعارة التبعية قاله غير واحد؟ وقيل عليه: إن كون الضلال نتيجة للجعل لله سبحانه أندادًا غير ظاهر إذ هو متحد معه أو لازم لا ينفك عنه إلا أن يراد الحكم به أو دوامه.
ورد بأنهم مشركون لا يعتقدون أنه ضلال بل يزعمون أنه اهتداء فقد ترتب على اعتقادهم ضده، على أن المراد بالنتيجة ما يترتب على الشيء أعم من أن يكون من لوازمه أولًا وفيه تأمل {قُلْ} لأولئك الضلال المتعجب منهم {تَمَتَّعُواْ} بما أنتم عليه من الشهوات التي من جملتها تبديل نعمة الله تعالى كفرًا واستتباع الناس في الضلال، وجعل ذلك متمتعًا به تشبيهًا له بالمشتهيات المعروفة لتلذذهم به كتلذذهم بها، وفي التعبير بالأمر كما قال الزمخشري إيذان بأنهم لانغماسهم بالتمتع بما هم عليه وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمرًا دونه وهو آمر الشهوة؛ وعلى هذا يكون قوله تعالى: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى} جواب شرط ينسحب عليه الكلام على ما أشار إليه بقوله: والمعنى إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لآمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار، ويجوز أن يكون الأمر مجازًا عن التخلية والخذلان وأن ذلك الآمر متسخط إلى غاية، ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر وعندك ذلك الأمر خطأ وأنه يؤدي إلى ضرر عظيم فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه فإذا لم تر منه إلا الآباء والتصميم حردت عليه وقلت: أنت وشأنك فافعل ما شئت فلا تريد بهذا حقيقة الأمر ولكنك كأنك تقول: فإذ قد أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك افعل ما شئت وتبعث عليه ليتبين لك إذا فعلت صحة رأي الناصح وفساد رأيك انتهى.
قال صاحب الكشف: إن الوجهين مشتركان في إفادة التهديد لكن الاداء إلى مختلف، والأول نظير ما إذا أطاع أحد عبيدك بعض من تنقم طريقته فتقول: اطع فلانًا، وهذا صحيح صدر من المنقوم أمر ومن العبد طاعة أو كان منه موافقة لبعض ما يهواه والقسم الأخير هو ما نحن فيه والثاني ظاهر انتهى.
وظاهر هذا أن التهديد على الوجهين مفهوم من صيغة الأمر، ويفهم من كلام بعض الأجلة أن ذلك على الوجه الأول من الشرطية وعلى الثاني من الأمر وما في حيز الفاء تعليل له، ولعل النظر الدقيق قاض بما أفتى به ظاهر ما في الكشف، وذكر غيرو احد أن هذا كقول الطبيب لمريض يأمره بالاحتماء فلا يحتمي: كل ما تريد فإن مصيرك إلى الموت؛ فإن المقصود كما قال صاحب الفرائد التهديد ليرتدع ويقبل ما يقول.
وجعل الطيبي ما قرر في المثال هو المراد من قول الزمخشري ان في {لَهُمْ تَمَتَّعُواْ} إيذانًا بأنهم لانغماسهم إلخ، وأنت تعلم أنه ظاهر في الوجه الثاني فافهم.
والمصير مصدر صار التامة بمعنى رجع وهو اسم إن و{إِلَى النار} في موضع الخبر، ولا ينبغى أن يقال: إنه متعلق بمصير وهو من صار بمعنى انتقل ولذا عدى بإلى لأنه يدعو إلى القول بحذف خبر إن وحذفه في مثل هذا التركيب قليل، والكثير فيما إذا كان الاسم نكرة والخبر جار ومجرور.
والحوفي جوز هذا التعلق فالخبر عنده محذوف أي فإن مصيركم إلى النار واقع أو كائن لا محالة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)}.
أعقب تمثيل الدينين ببيان آثارهما في أصحابهما.
وابتُدىء بذكر أحوال المشركين لأنها أعجب والعبرة بها أولى والحذر منها مقدّم على التحلي بضدها، ثم أعقب بذكر أحوال المؤمنين بقوله: {قل لعبادي الذين آمنوا} الخ.
والاستفهام مستعمل في التشويق إلى رؤية ذلك.
والرؤية هنا بصرية لأن متعلقها مما يرى، ولأن تعدية فعلها بـ {إلى} يرجح ذلك، كما في قوله: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} [سورة البقرة: 258].
وقد نزل المخاطب منزلة من لم ير.
والخطاب لمن يصح منه النظر إلى حال هؤلاء الذين بدلوا نعمة الله مع وضوح حالهم.
والكفر: كفران النعمة، وهو ضد الشكر، والإشراك بالله من كفران نعمته.
وفي قوله: {بدلوا نعمة الله كفرًا} محسن الاحتباك.
وتقدير الكلام: بدلوا نعمة الله وشُكرَها كفرًا بها ونقمةً منه، كما دل عليه قوله: {وأحلوا قومهم دار البوار} الخ.
واستعير التبديل لوضع الشيء في الموضع الذي يستحقه شيء آخر، لأنه يشبه تبديل الذات بالذات.
والذين بدلوا هذا التبديل فريق معرفون، بقرينة قوله: {ألم تر إلى الذين}، وهم الذين تلقوا الكلمة الخبيثة من الشيطان، أي كلمة الشرك، وهم الذين استكبروا من مشركي أهل مكة فكابروا دعوة الإسلام وكذّبوا النبي صلى الله عليه وسلم وشرّدوا من استطاعوا، وتسببوا في إحلال قومهم دار البوار، فإسناد فعل {أحلوا} إليهم على طريقة المجاز العقلي.
ونعمة الله التي بدلوها هي نعمة أن بوّأهُم حرمه، وأمنهم في سفرهم وإقامتهم، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم، وسلمهم مما أصاب غيرهم من الحروب والغارات والعدوان، فكفروا بمن وهبهم هذه النعم وعبدوا الحجارة.
ثم أنعم الله عليهم بأن بعث فيهم أفضل أنبيائه صلى الله عليهم جميعًا وهداهم إلى الحق، وهيّأ لهم أسباب السيادة والنجاة في الدنيا والآخرة، فبدّلو شكر ذلك بالكفر به، فنعمة الله الكبرى هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوة إبراهيم وبنيّته عليهم السلام.
وقومهم: هم الذين اتبعوهم في ملازمة الكفر حتى ماتوا كفارًا، فهم أحق بأن يضافوا إليهم.
والبوار: الهلاك والخسران.
وداره: محله الذي وقع فيه.
والإحلال بها الإنزال فيها، والمراد بالإحلال التسبب فيه، أي كانوا سببًا لحلول قومهم بدار البوار، وهي جهنم في الآخرة، ومواقع القتل والخزي في الدنيا مثل: موقع بدر، فيجوز أن يكون {دار البوار} جهنم، وبه فسر علي وابن عبّاس وكثير من العلماء، ويجوز أن تكون أرض بدر وهو رواية عن علي وعن ابن عباس.
واستعمال صيغة المضي في {أحلوا} لقصد التحقيق لأن الإحلال متأخر زمنه فإن السورة مكية.
والمراد بـ {الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار} صناديد المشركين من قريش، فعلى تفسير {دار البوار} بدار البوار في الآخرة يكون قوله: {جهنم} بدلًا من {دار البوار} وجملة {يصلونها} حالًا من {جهنم}، فتخص {دار البوار} بأعظم أفرادها وهو النار، ويجعل ذلك من ذكر بعض الأفراد لأهميته.